واع/ الشرق الأوسط بين معادلة القوى والتحولات الاستراتيجية/ اراء حرة/ محمد ايمن
في مشهد يشهد إعادة توزيع أوراق القوى والتوازنات الاستراتيجية، يعيش الشرق الأوسط مرحلةً متجددة من التوتر والتحولات الحاسمة. لم يكن الهدوء مجرد استراحة مؤقتة، بل خفتت النيران بين أروقة الأولويات لتعلو من جديد، في ظل عودة ضربات القصف على قطاع غزة بعد فترة من التهدئة الهشة. فقد أفرزت المماطلة في مفاوضات المرحلة الثانية والتحركات الأميركية الفردية لإطلاق سراح الرعايا المحتجزين مؤشرات على نية إسرائيلية مسبقة لاستئناف الهجمات، مما أدى إلى سقوط خسائر فادحة في صفوف القادة الميدانيين لدى حماس خلال ساعات معدودة.
وفي مفارقة واقعية تخطت حدود التوقعات، شهدت منطقة الشام تحوّلاً مفاجئًا؛ إذ تزامنت غارات إسرائيلية على درعا السورية مع قصف أميركي استهدف الحوثيين في اليمن، في خطوة تظهر مدى تشابك المواقف واستغلال الأزمات المحلية لتحقيق أهداف استراتيجية أوسع. وفي هذا السياق، تعد إيران الورقة الأساسية لتحريك المياه الراكدة؛ إذ يتحدث المحللون عن احتمالية توجيه ضربة عسكرية حاسمة إلى طهران عقب استنفاد نفوذها في مناطق مثل سوريا واليمن والعراق، في إطار استعراض للقوة واستعادة الهيبة.
على الجانب الآخر، تلعب السعودية دورًا محوريًا في ملء الفراغ الذي سيتركه تراجع النفوذ الإيراني، خصوصًا في اليمن. إدلب، التي يديرها فصيل “هيئة تحرير الشام” بقيادة أبو محمد الجولاني، تبقى بدورها منطقة عازلة تمنع إعادة الربط الاستراتيجي بين إيران وسوريا عبر العراق. أما ملف التطبيع بين الرياض وتل أبيب، فلا يقتصر على كونه خطوة دبلوماسية، بل يمثل أداة أميركية لإعادة ترتيب المشهد الاقتصادي والاستراتيجي، بما يحقق مكاسب في مواجهة الصين التي تسعى لترسيخ نفوذها عبر مشروع “الحزام والطريق”.
القاهرة، رغم أنها لا ترحب بهذا السيناريو، تجد نفسها أمام واقع معقد. سقوط إيران، وهي خصم لإسرائيل، ولو كان عدو من ورق، كان يمنح تل أبيب تحديًا استراتيجيًا أبعدها جزئيًا عن التوسع المباشر. لآن، مع تراجع هذا العدو الهش، تُمنح إسرائيل مساحة أكبر للتحرك في الإقليم، وهو ما لا يصب في مصلحة القاهرة.
على المستوى الدولي، تبرز معادلات جديدة تتداخل فيها مصالح القوى الكبرى. روسيا، الغارقة في مستنقع الأوضاع الأوكرانية، تحاول الحفاظ على نفوذها في الشرق الأوسط دون الانخراط في صدام مباشر مع الولايات المتحدة؛ بينما تدرك الصين أن التصعيد المفرط ضد واشنطن قد يُعكس نتائج سلبية على مصالحها الاقتصادية، ما يجعل تحركاتها تكاد تكون على حافة التوازن الدقيق بين المواقف السياسية والاقتصادية.
فمازال العالم يعيش عالم القطب الأحادي، واستطاع ترامب أن يضع أميركا سريعاً على أجهزة التنفس، لتعود إلى الحياة مرة أخرى. التهجير الفلسطيني ورقة مفتوحة للضغط على الدول العربية وخصيصاً مصر.
وما جعلهم إلى الآن يترقبون التحركات المصرية، دون تدخل خشن أو توجيه تهديد مباشر، هو قوة مصر وشعبها، فكل من تحدثنا عنهم وتوجه لهم الضربات، ليسوا إلا أعداء من كرتون، لا أكثر.
ومن جهة أخرى، تبدو أوروبا في مواجهة اختبار وجودي جديد مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، ما قد يُعيد ترتيب أوراقها في ميادين الدفاع والاقتصاد. فالتهديدات المتكررة بتقويض حلف الناتو وفرض رسوم جمركية صارمة لم تُضعف أوروبا، بل دفعتها إلى تبني سياسات أكثر استقلالية، تجلى ذلك في ضخ الاتحاد الأوروبي لمليارات اليوروهات في صناعة الدفاع ومحاولة إصدار ديون موحدة لتعزيز مكانة اليورو وتقليل هيمنة الدولار، رغم الاعتراضات التقليدية في بعض الدول.
على الجانب الآخر، تتصاعد الأحداث في تركيا بشكلٍ لافتٍ، حيث اندلعت احتجاجات واسعة بعد اعتقال رئيس بلدية اسطنبول، المرشح الأبرز أمام الرئيس أردوغان، بتهمة استغلال السلطات لأغراض سياسية. وقد وصف المعارضة هذا الاعتقال بأنه “انقلاب سياسي” يسعى من خلاله النظام لتعزيز سيطرته على مفاصل الحكم، مما أدى إلى اضطراب الشارع التركي وارتفاع معدلات التظاهر في مختلف المدن. ورغم أن التحليل يشير إلى أن الأحداث نابعة من قصور النظام نفسه، إلا أن التوترات قد تُستغل كحافز لمزيد من الضغط الداخلي ضد السلطات القائمة.
وسط هذه التغيرات المتسارعة، تظل القاهرة لاعباً استراتيجياً رئيسياً، مستندة إلى تاريخ ثابت منذ 1948 في دعم القضية الفلسطينية بإقامة دولة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. وقد أثبت الجيش المصري، الذي يقف في أقصى درجات الجاهزية، أنه قادر على مواجهة أي تهديدات تمس الأمن القومي، من خلال مراجعة دقيقة لاستعداداته في كافة الاتجاهات الاستراتيجية.
وقد أكدت القيادة المصرية أن الاصطفاف الوطني يشكل الضمان الحقيقي لعبور التحديات، وأن استثماراتها في تطوير القوات المسلحة وإنشاء القواعد العسكرية جاءت استباقاً لما يُحاك ضدها. كما يشير المتحدثون إلى أن النقد الموجه لتطوير الجيش كان بعيدًا عن الواقع، إذ أن القيادة السياسية تدرك تماماً المخاطر التي تحيط بالدولة وتواجهها بخطط مدروسة ترتكز على التدابير الوقائية الاستباقية.
تظل كل السيناريوهات مفتوحة في ظل هذا المشهد الجيوسياسي المعقد، حيث تتداخل التحركات العسكرية مع إعادة ترتيب التحالفات الإقليمية والدولية. وفي هذا الإطار، يبقى الشرق الأوسط ساحة مفتوحة للتحديات المستقبلية، فيما تستمر القوى الكبرى في سعيها لإعادة صياغة النظام العالمي بما يتناسب مع مصالحها المتغيرة. ورغم الضغوط المتزايدة، يبقى الأمل معقوداً على استقرار المنطقة وتحقيق توازن يضمن أمن الشعوب وحماية مصالحها الوطنية.