واع / أوكرانيا بين الصراع الجيوسياسي والأمن النووي.. سيناريو “يوم القيامة”/ تحليل سياسي

واع / بغداد / ليث هادي أمانة

في وقت تواصل القوات الروسية منذ تسعة أيام، عملية عسكرية “خاصة” داخل الأراضي الأوكرانية، تحت شعار “حماية إقليم دونباس” الذي يضم دونيتسك ولوغانسك الدولتين التي اعترف بهما بوتين مؤخراً. يتحدم الصراع الدائر على الارض في الاثناء بعد روسيا على محطة “زابوريجيا” للطاقة النووية الواقعة جنوب أوكرانيا , أكبر محطة للطاقة النووية في القارة الأوروبية التي بنيت في 1985 حين كانت أوكرانيا ما تزال جزءا من الاتحاد السوفيتي السابق، تضم ستة مفاعلات نووية وتوفر جزءا كبيرا من احتياجات البلاد من الكهرباء. بينما تواصل دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وكندا واليابان، الرد على تحرك بوتين تجاه أوكرانيا، بفرض عقوبات اقتصادية “غير مسبوقة” على روسيا، إضافة إلى تحشيد الدعم العسكري لدول “الناتو” المحاذية لأوكرانيا.

المشهد المعقد على الأرض في العمليات العسكرية التي تقوم بها القوات الروسية ، حيث تم تقسيم الارض الاوكرانية الى اربعة مناطق عسكرية تغطي السماء الطائرات الروسية القاصفة وتطوق الدبابات المدن الكبرى في البلاد وعزلها عن بعضها لتخفيف المقاومة العسكرية الاوكرانية للزحف الروسي نحو العاصمة كييف مع تواصل القصف بالراجمات والمدافع ذاتية الحركة المتطورة والتي لم تمنع سقوط القتلى والجرحى من الجانبين مع تدفق اللاجئين الاوكران الى المجر وبولندا والسويد ورومانيا ومولدافيا باعداد غير مسبوقة من قبل ، يجعلني اتذكر جيداً ما قاله وزير الخارجية الأميركي الاسبق هنري كيسنجر بعد حوالي اسبوعين من ضم روسيا شبه جزيرة القرم الأوكرانية وتحديدا في الخامس من آذار 2014 “إن المناقشة العامة حول الأزمة التي اندلعت وقتذاك كانت “تدور كلها حول مواجهة، لكن هل نعرف إلى أين نتجه؟”. مشدداً على أن “محك السياسة هو كيف تنتهي، لا كيف تبدأ”. ولفت كيسنجر إلى أن المسألة الأوكرانية تُصوَّر كمواجهة، فهل تنضم كييف إلى الشرق أم إلى الغرب؟ لكنه رأى أن استمرار أوكرانيا وازدهارها يعتمد على عدم تحولها إلى “قاعدة أمامية” للشرق في مواجهة الغرب أو العكس بالعكس، “فهي يجب أن تعمل جسراً بين الطرفين”. وأضاف، “على روسيا أن تتقبل أن محاولتها إجبار أوكرانيا على أن تكون دولة تدور في فلكها، بالتالي تحريك حدود روسيا مجدداً، سيحكم على موسكو بتكرار تاريخها من الدوران في حلقات مفرغة دورية من الضغوط المتبادلة مع أوروبا والولايات المتحدة”. وقد يتفق مع كسينجر رأي زبغنيو بريجنسكي ، مفكر استراتيجي ومستشار للأمن القومي لدى الرئيس الأميركي جيمي كارتر إذ تنبأ منذ زمن بعيد بمستقبل اوكرانيا، وقال عنها: انها أكثر الجوائز التي تطمح إليها روسيا. لكنه حذّر البيت الابيض من محاولات إذلال الروس، وحذرهم أيضاً من تطور العلاقات العسكرية بين حلف الناتو وأوكرانيا، واعترض على نشر أسلحة الناتو على أرضها وفي سواحلها، مؤكداً أن أي مبادرة لضم أوكرانيا للحلف ستؤدي حتماً لردود أفعال روسية غير مضمونة العواقب. لكن أمريكا تجاهلت تحذيراته بمرور الوقت، وسارعت لضم عدد من الجمهوريات السوفياتية السابقة إلى الحلف، حتى بلغ تعداد الدول الأعضاء 30 دولة، واقترب الحلف بقواعده الحربية إلى الحدود الروسية المتاخمة لإستونيا ولاتفيا وليتوانيا وبولندا، ثم تحولت أنظاره نحو الحدود الاوكرانية مع روسيا.

الصراع النووي بين روسيا والناتو

التأليب الأمريكي للمجتمع الدولي على روسيا وإلى جانبها دول حلف الناتو يصبح مفهوماً بشكل جلي لايقبل اللبس بعد العمليات الخاصة للجيش الروسي التي قام بها للسيطرة على المفاعلات النووية الاوكرانية ليشتعل الصراع على اشده تحت مسمى حماية الامن النووي الاوروبي من جهة والأمن النووي العالمي من جهة أخرى على النحو التالي:

اولاً/ عقد مجلس الأمن الدولي، مساء الجمعة الرابع من الشهر الحالي ، جلسة طارئة لبحث تداعيات سيطرة القوات الروسية على محطة زابوريجيا النووية والتي تعد المحطة هي الأكبر في أوروبا من حيث السعة الإنتاجية، وهي الأكبر بين أربع محطات للطاقة النووية في أوكرانيا والتي توفر معاً حوالي نصف الكهرباء في البلاد. وقالت الوكالة الدولية للطاقة الذرية إن هذه هي المرة الأولى التي تندلع فيها حرب في بلد يضم مثل هذا البرنامج النووي الضخم. وتبلغ طاقة كل وحدة من وحدات زابوريجيا الست 950 ميغاوات أو ما مجموعه 5.7 غيغاوات وفقا لقاعدة بيانات الوكالة الدولية للطاقة الذرية. تم توصيل الوحدة الأولى بالشبكة عام 1984 والأخيرة عام 1995. محطة توليد الكهرباء تعمل بجزء بسيط من قدرتها.

تعتبر محطة توليد الكهرباء ذات أهمية استراتيجية بالنسبة لروسيا لأنها لا تبعد سوى 200 كيلومتر عن شبه جزيرة القرم . وفي السياق، أعلنت وكالة تفتيش المواقع النووية الأوكرانية أنها لم ترصد أي تسرب إشعاعي من منشأة زابوريجيا النووية ، وأعلنت الطوارئ الأوكرانية عن نجاحها في إخماد الحريق المندلع في بعض أقسام المحطة .

ثانياً/ سيطرة القوات الخاصّة الرّوسيّة في السابع والعشرين من شباط المنصرم محطة مفاعل تشرنوبل النووي شمال البلاد ، وطوقته بالدبابات والمدرعات ، ولكن في الوقت نفسه وعلى العملية العسكرية إلا ان مستويات الإشعاع “تحت السيطرة” والموظفين المدنيين لا زالوا يمارسون عملهم بشكل طبيعي. اذاً

فان المحطة هي واحدة من الاهداف الاستراتيجية الروسية بلا شك في هذه الحرب ، ولا بد من ان نقف عل ان نقف عند المفاعل رقم أربعة هو الذي تسبّب في كارثة الانفجار عام 1986، التي دمَّرت سقف المفاعل الذي يزن 2000 طن من الحديد والفولاذ؛ وهو ما أدّى لتسرب إشعاعي ضخم، أما المفاعلات الباقية فخرجت من الخدمة على التوالي، وآخرها توقف عام 2000. كما أن خروج المفاعلات عن الخدمة ليس نهاية المطاف، فتوجد إجراءات طويلة الأمد، منها أعمال صيانة وتبريد للوقود النووي المحترق؛ الأمر الذي يحتم وجود فرق الصيانة وخبراء نوويين داخل المفاعل.

ويرى خبراء في الشأن النووي ان القوات الروسية تعلم ما يحدث في منطقة المفاعلات، وحين اقتربت منها طلبت من القوات الأوكرانية عقد اتفاق يسمح ببقاء القوات الأوكرانية التي تحمي المفاعل وفرق الصيانة والخبراء؛ لأن إجلاءهم سيضع روسيا أمام مسؤولية الحفاظ على المفاعل، والقيام بالصيانة والوقاية.  وحتى اللحظة تعتبر المنطقة مصدر إشعاعات خطيرة جدًّا، والطرفان يعيان هذا جيدا؛ فكان لا بد من اتفاق جدي بينهما حتى لا تتفاقم الأزمة، وفق المتحدث ذاته.وحسب إحصائية لوزارة الصحة الأوكرانية فإن 2.3 ملايين من السكان ما زالوا يعانون من الكارثة. كما تسبّب الانفجار في تلوث 1.4 ملايين هكتار من الأراضي الزراعية في أوكرانيا وبيلاروسيا بالإشعاعات الملوّثة.

ثالثا/ اعلن الناتو نشر عناصر من قوة “الرد” التابعة له بهدف تعزيز قدراته الدفاعية والاستعداد لأى تطور للعملية الروسية فى أوكرانيا ، الامر الذي فسرته شبكة “سى إن إن” بقولها في تغطيتها للحدث “إن تفعيل قوات الرد لا يعنى أن أي قوات أمريكية أو تابعة للناتو ستدخل أوكرانيا، التى ليست عضوا بالحلف، لكن قوة الرد في حالة تأهب، وليس من الواضح عدد القوات التي ستكون في قوة الرد”. لكن القلق والترقب الذي ساد العالم وحبس الانفاس هو الرد الروسي على ذلك إذ أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن وضع قوات الردع النووي في حالة تأهب ، وهنا لا من القول ان هذه هي المرة الأولى التي يتخذ فيها الكرملين، مثل هذه الخطوة من أن تأسس الاتحاد الروسي في عام 1991. ولعل احداً يتسائل ماهية قوات الردع النووي الروسية ؟ فنقول إن تلك القوات تتألف من مجموعة من الوحدات، مهمتها ردع أي هجوم على روسيا بما فى ذلك الهجوم بأسلحة نووية. وتنقسم قوات الردع الاستراتيجية إلى قوات هجومية وأخرى دفاعية. وتشمل أنظمة صاروخية وجوية عابرة للقارات وأسلحة عالية الدقة بعيدة المدى وقاذفات استراتيجية وبعيدة المدى وسفن وغواصات وطائرات حاملة للصواريخ عالية الدقة وطويلة المدى كما تضم منظومة الإنذار بالاعتداء الصاروخي، ومنظومة مراقبة المجال الفضائي، والدفاعات المضادة للصواريخ والوسائل الفضائية والطائرات.

رابعاً/ تمتلك روسيا حوالي 6 آلاف رأس نووي، بينما تمتلك الولايات لمتحدة 5400، وفقا لاتحاد العلماء الأمريكيين. يحوي العالم ما بين 15-18 ألف رأس حربي نووي، عدة آلاف منها يمكن أن تكون جاهزة للإطلاق خلال 5-15 دقيقة. لكن وبحسب خبراء نزع السلاح في الامم المتحدة ، إن إعلان روسيا الأخير سيمكن قيادة جيشها ونظام التحكم من إرسال أمر الإطلاق النووي، وسيجعله أقل عرضة “لقطع الرأس” في حال أصبح بوتين أو اى من كبار مستشاريه العسكريين موتى أو عاجزين عن أداء عملهم. هذا إذا علمنا أن العقيدة العسكرية الروسية تضع احتمالية استخدام الأسلحة النووية فقط فى حالة وجود تهدد لوجود الدولة، فإن بعض خبراء روسيا يعتقدون أن نقطة استخدامها الحقيقية بما تقع خلف هذه العتبة.

خامساً/ تمتلك اوكرانيا اكبر احتياطي لخام اليوانيوم في أوروبا، وعاشر اكبر احتياطي لخام التيتانيوم في العالم والذي يدخل في صناعة الاسلحة،وثاني اكبر احتياطي في العالم من خام الحديد ، وثاني اكبر احتياطي في أوروبا من خام الزئبق،واوكرانيا رابع اكبر مصدر في العالم لتوربينات المحطات النووية .

سيناريو “يوم القيامة”

يبرز مصطلح “ساعة القيامة” At doom’s doorstep وهو اصطلاح رمزي تُعبِّر عنه ساعة تُشير إلى ما قبل منتصف الليل بعدة دقائق، ابتُكرت هذه الفكرة سنة 1947 من قِبَل مجلس إدارة مجلة علماء الذرة التابعة لجامعة شيكاغو، وهي تُنذر بقُرب نهاية العالم بسبب السباق الجاري بين الدول النووية.

حسنا، دعنا ندخل قليلا إلى ما يمكن أن يحدث في عالم الاحتمالات، لنبدأ مثلا باحتمال بسيط يقول إن روسيا أو أيًّا من دول حلف الناتو النووية بدأت بإطلاق صاروخ نووي واحد عابر للقارات، وضرب مدينة متوسطة أو ربما كبيرة بحجم القاهرة مثلا، ما الذي سيحدث في هذه الحالة؟ هذا احتمال شهدنا تحقُّقه من قبل في حالتَيْ هيروشيما وناغازاكي.

لو سقطت القنبلة في أحد شوارع مركز المدينة فستظهر خلال أقل من ثانية كرة من البلازما الحارة جدا (أكثر من الشمس) وتُبخِّر كل ما يوجد ضمن نطاق 2-3 كيلومترات من مركز الانفجار، حينما نستخدم لفظ “تُبخِّر” فإننا نستخدم أدق وصف ممكن لما سيحدث، كل شيء سيتبخَّر من بشر وأشياء ومنازل وسيارات وأشجار وغيرها. بعد ذلك، وخلال أقل من 20 ثانية لاحقة، ستنطلق موجة حارة هائلة إلى دائرة قُطرها 25-30 كيلومترا، هنا لن يتبخَّر شيء، لكن كل ما هو قابل للاحتراق سيحترق، بما في ذلك البشر والأشجار والمنازل والمواد البلاستيكية والملابس. يتضمَّن ذلك أيضا موجة صدمية قادرة على هدم معظم المنازل في المنطقة، أثر تلك الموجة سيكون أكبر من المرور خلال إعصار هائل من الدرجة الخامسة. قد يصل عدد القتلى في هذه الضربة إلى 500 ألف شخص، مع ضِعْف هذا العدد من المصابين الذين لن يُسعَفوا لأن البنية التحتية دُمِّرت، لكن هذا ليس كل شيء، لم نتحدَّث بعد عن التلوث الإشعاعي الذي سيمتد لنطاق عدة كيلومترات إضافية بعد الدائرة السابقة قاتلا من 50-90% من السكان خلال الساعات إلى الأيام التالية، مع ارتفاع احتمالات الإصابة بأنواع متفرقة من السرطان في الأجيال التالية لمَن تبقوا. يلي ذلك انتشار واسع لما يُسمى بالغبار النووي، وهو الرماد المُشع المتبقي الذي دُفع به إلى الغلاف الجوي بعد الانفجار. ويمكن أن ينتشر هذا الغبار لعدة مئات من الكيلومترات من موقع الانفجار. في حين أن معظم الجسيمات التي يحملها الغبار النووي تتحلل بسرعة، فإن بعض الجسيمات المُشعة سيكون لها أثر باقٍ يتراوح من ثوانٍ إلى بضعة أشهر. أما بالنسبة لبعض النظائر المُشعة، مثل السترونتيوم 90 والسيزيوم 137، فإن أثرها يدوم طويلا جدا ربما لمدة تصل إلى 5 سنوات بعد الانفجار الأوّلي.

تحولات النظام العالمي

الأزمة الروسية- الأوكرانية الراهنة تجري في مرحلة شديدة الأهمية فيما يتعلق بتطور النظام العالمي. هناك تحول عميق ومتسارع في هيكل توزيع القدرات الاقتصادية والعسكرية، وأنماط التفاعلات الجارية بين القوى الرئيسة داخل النظام العالمي من خلال:

1- تراجع الفجوة بين القوى المهيمنة على النظام العالمي منذ انتهاء الحرب الباردة، ممثلة في الولايات المتحدة، من ناحية، والقوى الصاعدة ممثلة في الصين وروسيا. التراجع في حجم هذه الفجوة يجرى ليس فقط على مستوى القدرات الاقتصادية، لكنه يجرى أيضاً على مستوى توزيع القدرات العسكرية وأنظمة التسليح.

2 – الأزمة الراهنة هي حلقة جديدة في تكريس وتسريع عملية التحول في موازين القوى الدولية، وهي، من ناحية أخرى، أزمة كاشفة عن عمق هذا التحول.

3- عودة سياسة الأحلاف الدولية، حيث اتسمت فترة الحرب الباردة بانتشار ظاهرة التحالفات العسكرية والأمنية، خاصة حلف “الناتو” (تأسس سنة 1949) وحلف “وارسو” (تأسس سنة 1955)، كحلفين عسكريين رئيسيين في قلب النظام العالمي آنذاك، وفي قلب المسرح الأهم للحرب الباردة، بالإضافة إلى بعض الأحلاف ذات الطابع الإقليمي.  

4- الحرب في اوكرانيا هي جزء من سلسلة من الأزمات المتراكمة في سياق عملية التحول الجارية في النظام العالمي. وكلما اقترب اكتمال عملية الانتقال والتحول كلما كان تأثير مثل هذه الأزمات أكثر وضوحاً، التي ستفتح أسئلة كبيرة بعد انتهائها.