واع /بناء الثقة :الطريق الطويل../ اراء حرة /د.إحسان الشمري

عَرَضْت الطبقة والعملية السياسية العراق، دولة وشعب ، إلى اهتزازات عنيفة على امتداد ما يزيد على عقد ونصف من السنوات ، نتيجة تغييب الهوية الوطنية وانعدام العدالة الاجتماعية واعتماد عرف استلاب المؤسسات وتمكين الفساد كقوة رديفه للدولة كاستحقاق سياسي ، فكان له الأثر الكبير كجرح عميق بالنظام الديمقراطي والشعب الذي كان طامحاً بنظام عادل يتسيده القانون والتكافؤ مع الدول والشعوب الأخرى .

كان الغرور السياسي مسيطراً على نهج وأداء ومواقف وتعاطي أغلب القوى الممسكة بالسلطات ومقدرات الدولة ، إذ لم تكترث بالاحتجاجات المتباعدة على مر السنوات الماضية ، وذهبت أبعد من ذلك حين نظرت للشعب على أنه مجرد جسر يديم زخم الشرعية المتناقصة لها مع كل حفلة تزوير انتخابية ، فكان الامتناع الشعبي عن انتخابات 2018 ، بداية النهاية لكثير من الصلات مع هذه الأحزاب وفقدان الثقة بالأطروحات السياسية والزعامات السياسية وما يتبعها.

صُورت معادلة السلطة لسنة 2018 ، على أنها المنقذ السياسي ، للنظام والشعب ، والرافعة لأخطاء الماضي ، إلا أن جوهر الحقيقة كان انقلاباً ناعماً يعمل على تكريس العراق كدولة هشة ، تتحكم بها قوى ظلت خارج الدولة منذ التأسيس ، تعمل على إعادة إنتاج نظام قمعي بعنوان ديمقراطي لا يسمح بتجاوز ما يرسمه من حدود الحياة بكل مستوياتها.

لم تعد الدولة كما كانت ، ولا حتى ديمقراطية النظام ، كأمل منتظر ، لذلك جاءت ثورة تشرين لتعلن نهاية وسحب الثقة عن مضامين العملية السياسية التي لم تنتج سوى المزيد من التآكل لما تبقى من الدولة ، وعلى الرغم من محاولة قوى الخراب استعادة شرعيتهم برصاص الديمقراطية وبحاكم هزيل جسد أسوء صور ضعف النظام والدولة ، إلا أن كل محاولات القتل والترويض القسري لم تجدي نفعاً ، لذا وجدت ، معادلة السلطة وعمليتها السياسية ، نفسها أمام تهديد حقيقي لمصيرها الحاضر ومستقبلها القادم ، فلم يكن منها إلا أن تعود خطوة إلى الوراء بتقديم تنازل محدود بإعادة رسم المشهد التنفيذي من جديد .

القبول على مضض بالكاظمي من هذه القوى ، وهو الخارج والبعيد جدا عن حدودهم ، كان محاولة للتهدئة مع المتحول الداخلي والتهديد الخارجي ، لكن حتى هذا التنازل لم يعد كافيا لنضج سياسي شعبي ناقم ، بل إن إصلاح النظام السياسي أصبح هو الهدف الأساس للثورة المستمرة.

نعم قد تمثل لحظة الكاظمي ، محاولة لبناء الثقة من جديد ، لكن هذا الأمر لا يتوقف على الكاظمي نفسه ومنهجه في الحكم ومحاولته وقف انهيار العراق الذي تسببت به قوى خارج الدولة ، بقدر ما يتعلق برغبة هذه القوى بالذهاب أبعد من السلطة التنفيذية ليشمل إعادة تصحيح وهيكلة للدولة ونظامها وإيمانها بالديمقراطية والسيادة للدستور والقرار العراقي .

ما لم تدركه هذه القوى ، أنها مهما قدمت (رغم إني بشك أنها ستقدم) من تنازلات ، فأنها غير قادرة ، وبكل مخرجاتها أو صفقاتها وتسوياتها القادمة على إمكانيتها ببناء الثقة من جديد ، فالحقيقة هي انها وصلت للمرحلة الصفرية للتأييد الشعبي ، وعليها أن تدرك أيضا ، بأنه إذا ما نجح الكاظمي برسم جديد لخطوط ثقة ، فهو لا يعني بالضرورة عودة الثقة بهم .

إن بناء الثقة بالعملية السياسية مرة أخرى لن يرتبط بقوى خارج الدولة الحالية أو هذه الطبقة السياسية ، بل يرتبط بجيل سياسي جديد يؤمن بالعراق والدولة والشعب ، وهذا الجيل المختلف سياسيا سيخضع أيضا لمرحلة اختبار أخرى لقدرته على تحقيق الطموح بنظام وعملية سياسية تتطابق مع تطلعات الشعب، ولذلك فطريق بناء الثقة معقدٌ وطويل .