واع / حوار الفنان التشكيلي العراقي عامر العبيدي….. لوحاته التشكيلية تتجاوز حدود الفنتـازيا والواقـع..!!
واع / بغداد / حاورته دنيا صاحب
منذ ان شهد التشكيل وفنونه البارزة بداية القرن العشرين حصلت تحولات كبيرة على الحقل الفكري الانساني ، والذي دفع الفنانين التشكيليين الى رفض الاسلوب الفني السائد انذاك وكان السعي نحو ايجاد نسق فني جديد ومتميز بحيث يستوعب التشكيل الجديد ونواته الاجتماعية الفنية الثقافية والثقافية الجديدة ، حيث انطلق عصر الحداثة في اواخر القرن التاسع عشر،والحركة الانطباعية التي منحت موقعا لتحدي كل ما هو مألوف،فكانت نقطة تحول في تاريخ الفن،حيث مهدت للحركات الفنية التي ظهرت في القرن العشرين.. ومن ابرز الفنانين العراقيين التشكليين الكبار عامر العبيدي والذي ينتمي الى الجيل الثاني منهم ،وبعد جيل الرواد في العراق، ساهم بشكل متواصل في تطوير أساليب التشكيل العراقي، وإدخال الحداثة في الطرح والمعالجة التشكيلية، رغم أنه كان يتناول الفلكلور العراقي وقصصه المتنوعة، وخاصة جوانبها الروائية والدرامية في أعماله.
وفي حوارصحفي عبر التواصل الاجتماعي مع التشكيلي عامرالعبيدي نقترب أكثر من رؤيته الفنية، ونتناول رحلته بين الواقع والخيال، التراث والتجديد، الفلسفة والتشكيل، في محاولة لفهم كيف يحوّل الفرشاة إلى أداة تفكير وتأمل، وكيف يعيد تشكيل الهوية البصرية للفن التشكيلي العربي بأسلوبه الفريد. حيث وجهت (واع) من خلال الكاتبة دنيا صاحب عدة أسئلة لفهم مسيرته الفنية الثقافية..
** كيف كانت انطلاقتك الفنية؟ وما الذي أثر في تشكيل رؤيتك منذ دخولك معهد الفنون الجميلة؟
–لقد كانت انطلاقة رحلتي الفنية قد بدأت عام 1962 عندما التحقت بمعهد الفنون الجميلة، في فترة كانت تعد ذروة الإنطلاقة الفنية في العراق. كان هذا الزمن مليئاً بالعنفوان والإبداع بسبب وجود نخبة من الفنانين الكبار والأساتذة الذين عادوا من أوربا، ما أتاح لنا فرصة الإستفادة من خبراتهم. كنا، أنا وزميلي إبراهيم زاير، نتابع بشغف المعارض الفنية والندوات الفكرية في الستينات، وهي فترة تحتاج دراسة معمقة لفهم خصائصها الفنية. في هذه الفترة، فزت بالجائزة الأولى في إبيزا – إسبانيا، وكانت هذه البداية الحقيقية لمسيرتي الفنية..كما استلهمت بعض أساليب الفنان فائق حسن، كما تأثر بالمدرسة التكعيبية وبخاصة بابلو بيكاسو، حيث وظّف تفكيك الأشكال وإعادة بنائها هندسيًا بأسلوب يدمج بين الأصالة والحداثة. لكنه لم يكتفِ بالتأثر، بل أسس مدرسة خاصة به تقوم على المزج بين الرمزية الفنتازية والهندسة التشكيلية ثلاثية الأبعاد، ما جعل لوحاته تتجاوز الفن البصري إلى خطاب فلسفي يُعبّر عن التحولات الثقافية والاجتماعية.
** هل يمكن ان تحدثنا عن تطور أسلوبك الفني بين المراحل المختلفة؟
— بصراحة لقد تنقلت بين عدة مراحل فنية. في البداية، كان الطابع التكعيبي التجريدي يغلب على أعمالي، خاصة في مجموعة ( المغول في بغداد ) بعد زيارتين قمت بها للأهوار مع جماعة الفنانين المجددين، استلهمت لوحات تعبر عن أصالة الإنسان هناك، بإستخدام اللون الأبيض والرصاصي. بعدها، ركزت على الطابع التراثي والفروسية بأسلوب حديث وألوان الأبيض والأسود. في التسعينيات، انتقلت إلى التعبيرية الرمزية التي عكست معاناة الإنسان، خصوصاً بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003. أما في السنوات العشر الأخيرة، ركزت على التعبير عن صراعات البشر وعذاباتهم، وتأثير الحروب والأوبئة، مثل جائحة كورونا التي غيرت طبيعة التفاعل الإنساني.
مضيفا : كما تجد في أعمالي الخيول العربية، الفرسان، الكراسي، الطيور، والزخارف الهندسية حاضرة بقوة، ليس كعناصر جمالية فقط، بل كرموز ذات أبعاد فلسفية، نفسية، اجتماعية، وسياسية. كما اضفيت على هذه المفردات طابعًا تكعيبيًا وتجريديًا مستوحى من الفن الإسلامي، حيث تتجلى التسطيح الهندسي، الخطوط الحادة، والتداخلات اللونية التي تمنح لوحاتي طاقة ديناميكية تعكس صراع الهوية والثقافة في عالم متغير.
*** وكيف تصف تجربتك مع عملك الشهير ( ملحمة المغول في بغداد ) ..؟
— قد شاركت في المعرض الثالث لجماعة المجددين، عرضت عمل ( ملحمة المغول في بغداد ) وهو عبارة عن 15 لوحة جسدت البحث في المجهول. تناولت فيها مشاهد بشرية وخيول محتدمة يغلب عليها اللون الأحمر، ما جعلها تمثل نقلة نوعية في أسلوبي الفني. كان العمل محاولة لإبراز الفوضى والعنف بلمسات تكعيبية تجريدية.
*** وما الذي دفعك للتعبير عن معاناة الإنسان في أعمالك؟
–بلا شك ان كل فنان يتأثر بواقعه الإجتماعي والبيئة التي نشأ فيها. بدأت أرسم في مرحلة الثالث المتوسط لوحات عن معركة الجزائر، وكنت دائماً أستلهم من التراث والحالات الإنسانية، خاصة الإنسان المتعب والمُعذَّب. لاحقًا، اتجهت لرسم (الكرسي) كرمز لعلاقة الإنسان بالسلطة والمجتمع. كل مرحلة في حياتي تضيف بُعداً رمزياً جديداً لفني.
*** وكيف كانت تجربتك الفنية في المملكة العربية السعودية؟
–حين قررت السفر إلى المملكة العربية السعودية، كنت لا أعرف أي شيء عن المجتمع السعودي بصراحة، كما في مدينة الطائف وبالرغم من أن الناس كان يسودهم الهدوء والطيبة والخلق الجميل الا انني تفاجئت انهم يعتبرون رسم الأشخاص حرام.؟!! وقد أدركت حينها أن ممارسة الرسم صعبة في هذا الكم، ولا يمكنني أن أمارس الرسم بحرية رغم ذلك تمكنت طيلة ثلاث سنين من إنجاز الكثير من الأعمال ، كنت أرسم في غرفتي في الفندق وكان يعيش بنفس الفندق الكثير من الأمريكان والإنكليز، كانوا يأتون الى غرفتي ويشترون بعض الأعمال مع ذلك كانت تجربة لتحمل الغربة والمسؤولية والتكيف مع مجتمع مغلق صعب التعامل معه بالرغم من طيبتهم وعفويتهم!.
** زيارتك للأهوار كانت محطة مهمة في مسيرتك، كيف انعكست على أعمالك الفنية؟
– زيارتان فقط للأهوار كانتا كافيتين لإحداث تغيير عميق في أعمالي. تأثرت كثيراً برجال الأهوار الذين يجسدون أصالة الإنسان العراقي. استخدمت اللون الأبيض والرصاصي للتعبير عنهم، وركزت على الأرض والماء كرموز للثبات. كانت هذه المرحلة محطة غنية بالتفاصيل الإنسانية التي انعكست في جميع لوحاتي.
س / ما الذي دفعك للهجرة؟ وهل شعرت بتأثيرها على عملك الفني؟
بصراحة لقد هاجرت إلى سوريا بعد أن قتل ولدي وبترت ساق زوجتي في تفجير في منطقة السيدية ببغداد، وبما إني أسكن بالإيجار وهذا من مكاسب الوطن، فكرت بالهجرة إلى سوريا إلى أن تنتهي مذابح الطائفيين، ولما طال الإنتظار رفضت الرحيل ،ولا يوجد بديل عن الوطن وخاصةً مدينة السلام بغداد التي قتل فيها ولدي بيدرايضا!
** كيف أثرت الأزمات العالمية، مثل جائحة كورونا والحروب على أعمالك؟
–نعم.. ان جائحة كورونا أثرت بشكل عميق على الجميع، بما فيهم أنا ، وقد تراجعت معها لغة التفاعل بين الناس وأصبحت نفسياتنا متأثرة جداً بالعزلة والخوف، عندما انتهت الجائحة، دخلنا في صراعات جديدة وحروب عبثية تحملنا عبئها النفسي يومياً. هذه الأزمات شكلت جزءاً كبيراً من موضوعاتي الفنية الأخيرة، حيث ركزت على عذابات الإنسان وصراعاته المتواصلة ، وان أعمالي لطالما قدمت الملفوظ والخيالي منها بصيغ فنية، لا تُخلِّف وراءها إلا سيلاً من الرموز، وبتراكيب مختلفة، تعمل على إعطاء المخيلة الحق بأن تنقل مجسماتها، لأن توازي الذاكرة المحملة بإرث ومنهج وخطاب تأملي لحياة عربية، لا تلقَّفُ من الغرب أياً من بهرجة مادياتها، بل استندت إلى موروثي، وحولته إلى بنائيات عميقة الدلالة ومتينة الصلة بموثوقات الطقوس الاجتماعية، والمعتقدات التي يمكن أن تتنامى في شأن تاريخي محلي.
وتجدر الاشارة الى ان الفنان التشكيلي عامر العبيدي يعد من أبرز الأسماء في المشهد الفني العراقي والعربي، حيث استطاع أن يصنع هوية فنية متفردة تمزج بين التاريخ والحداثة، والتجريد والرمزية. وُلد العبيدي في مدينة النجف عام 1943، ونشأ وسط بيئة زاخرة بالتراث الإسلامي والتاريخي، ما جعله ينطلق في رحلة إبداعية غنية بالتجارب والتأملات، بدأت من دراسته للفنون التشكيلية في بغداد، وتوّجت بمشاركات عالمية وجوائز مرموقة، أبرزها الجائزة الأولى في معرض إبيزا الدولي بإسبانيا عام 1964.كما ركزت تأثيرات الصورة الفنية عنده جل اهتمامها باتجاه فن قابل لتوظيف الأسس التراثية، وبإطارها المجدد، وقدّم لنا منذ أكثر من أربعين عاماً، فناً ملتزماً بطابع له خصوصيته، من حيث التراكيب البنائية والهيكلية التي تنتهي نحو تكوينات محملة بخيول جامحة أو منبطحة، وظل توجهه ماضياً في حدود الاهتمام بالبيئة ومرتكزاتها التراثية..

