واع/الفنانة ريما كبّي: احترفتُ الرسم عندما قررتُ التّعبير عن انفجارٍ داخليّ

لا شكّ بأنّ كلّ إنسان يمتلك وسيلة ما للتعبير عمّا يختلج في داخله من مشاعر، من الكتابة إلى الموسيقى وإلى الرسم الذي يُعدّ من أقدم الفنون التي عرفها الإنسان الأوّل للتعبير عن حاجاته، وهذا ما نجده في الأماكن الأثرية وفي الكهوف… هذا الفنّ الراقي لغة تجمع الناس كافة ويفهمونها جيّداً.

كثر هم الرسّامون الذين عشقوا هذا الفنّ وأبدعوا فيه، ومنهم الرسامة ريما كبّي التي حباها الله موهبة صقلتها بالتعلّم والممارسة. فهي حين تحمل ريشتها وتداعب بها الألوان والورق والقماش… تصبّ فيها مشاعر الأنثى والأمّ والفنّانة المرهفة المشاعر.

عشقت كبّي الرسم صغيرةً ودرسته مراهقةً واحترفته سيّدةً. فهي أيقنت أنّ حبّ الشيء هو المَعبَر للنجاح فيه، انطلاقاً من مقولة “أحبّ ما تعمل حتى تعمل ما تحبّ”، من دون النظر إلى الصعوبات والظروف والضغوط التي عاشتها وعانتها. هكذا شقّت طريقها الصعب المليء بالعراقيل والموانع والإحباطات، يحدوها الإيمان بموهبة باتت احترافاً، وبحلم أمسى هدفاً.

صنعت لنفسها عالماً خاصاً في مرسمها، وزيّنته برسوم أعملت فيها ريشتها السحرية، حتى أتت آية في الروعة والجمال… تحمل في ثناياها عمقاً إنسانياً يحاكي خبايا النفس، وقيمة فنّية في الوقت ذاته. زرناها في صومعتها – مرسمها – التي أضفت عليها من شخصيتها معنى العطاء والإبداع، وكان هذا الحوار معها:

 * بداية، من هي ريما؟ متى وكيف بدأ شغفها بالرسم؟

– اسمي ريما كبي، من مدينة بيروت. اكتشفت عشقي للرسم وأنا في الثانية عشرة من عمري، وقد ورثت هذا العشق عن والدي الذي كان يرسم بالفطرة من دون معرفة بمبادئ الرسم. وقد يكون الأمر في الجينات، فالذين يرسمون ويحبّون الرسم في عائلتي كثر لكن من دون احتراف، فما من أحد أخذ الموضوع على محمل الجدّ. كنت أراقبهم يرسمون، وأرى رسومهم بإعجاب. مثلاً رسمت عمتي لوحة جميلة جداً بقلم رصاص، ووالدي رسمني وأنا صغيرة، وما زالت الرسمتان في مخيّلتي إلى الآن. أذكر أنّنا في أيام الحرب الأهلية، حين كنت وإخوتي صغاراً، كان والدي يجمعنا ويعلّمنا الرسم ويطلب منّا تطبيق ما نرى. وأذكر أول رسمة رسمها أمامي كانت “أرنباً”. وكان أثناء تعليمي، يوبّخني ويصرخ في وجهي حين تخونني أناملي وأخطئ، فتثور ثائرتي وأقرّر ألا أرسم ثانية. لكنّ شغفي كان يأخذني دوماً إلى الأقلام والأوراق وأُقبِل على هوايتي بوَلَهٍ. وفي السابعة عشرة من عمري، قررت أن أتعلّم الرسم. حينذاك كان ابن خالتي يتلقّى دروساً عند الفنّان حيدر حموي – وهو الوحيد في ذلك الوقت الذي أسّس مدرسة لتعليم الرسم في لبنان في منطقة الحمرا – فطلب منّي أن أرافقه ليكمل لوحة كان يرسمها. ذهبت معه، وكان أنّ ما رأيت أخذني من نفسي ومن واقعي إلى بلاد العجائب، إلى عالم يفيض سحراً وجمالاً وروعة. وهناك، كانت نقطة التحوّل في حياتي.

ممكن أن نقول إنّ ريما وجدت نفسها في ذلك المكان؟

– نعم، هناك، عرفت ما أريد. فالأمر لم يقتصر على أنّني رأيت اللوحات وحسب، بل رأيت كيف تُرسَم وكيف تتحوّل من قطعة قماش أو خشب… إلى تحفة تضجّ حياة وانفعالات. وأمام هذا المشهد الفاتن، وقفت مذهولة ومأخوذة، لا ألوي على شيء. عند ذاك، قرّرت أنّ مكاناً كهذا يجب أن أكون فيه يوماً ما. بعد تلك الزيارة، لم يمرّ وقت طويل حتى بدأت الحوادث تتوالى مسرعة، فتزوجت وأنا في الثامنة عشرة، وكنت طالبة في كلية الحقوق، ثمّ اندلعت الحرب لتضع حداً لكلّ شيء جميل. إلا أن حب الرسم لم يفتر داخلي. توالت الأيام وطُوِيَت السِّنون، وأنجبت طفلي الأول… وقرّرت أن أتفرّغ لتربيته ورعايته… وبعد دخوله المدرسة، وفي اليوم الأول له فيها، قرّرت أن أتعلّم أصول الرسم وأحترفه.

ألم يتأخّر كثيراً هذا القرار؟

– بلى، ولكن ظروفاً كثيرة حالت دون تحقيق ما أريد، الى حدّ أنني لم أتمكن من إتمام دراستي في الحقوق، رغم اجتهادي.ولا أخفيك أننيندمت لأنّني لم أكافح، في الأقل من أجل الحصول على شهادة جامعية. أمّا الآن، فأظنّ أنني تخطيت الأمر وأنا مقتنعة بحياتي وبما وصلت إليه. لذا، لا أفكر كثيراً في الماضي حتى لا يستنزفني الألم. ففي النهاية، شخصيتي نتيجة لما مررت به وما حصل معي.

أثناء حديثك، شعرتُ بغصّة في كلامك وبحرقة، ما سبب هذا التأثر؟

– المحادثة هذه أعادتني كثيراً إلى الماضي بمآسيه كلها. لذا، تأثّرت. وأنا كغيري من البشر، نظنّ في أوقات أنّنا تخطّينا مشاعر كثيرة، ولكن عندما تجتاحنا الذكريات تعود بجميع تفاصيلها، فتقضّ مضاجعنا وتؤرقنا.

أين تعلمت الرسم، وكيف تصفين التجربة؟

– قرّرت أن أتعلّم الرسم من دون اسشارة أحد، وبدأت مباشرة. وقد تتلمذت على الفنان حيدر حموي أيضاً. في تلك الفترة، كانت المواصلات صعبة جداً. وكان نزولي من البيت في منطقة بشامون ورجوعي إليه يستغرقان وقتاً طويلاً، فضلاً عن المدة التي أمضيها في المرسم. وقد كان علي أن أنزل مرّتين في الأسبوع، الأمر الذي كان يسبّب لي مشكلات مع زوجي ويجعلني أعيش في دوّامة من الصراع لا تنتهي. وكان عليّ أن أضحّي وأعتكف في منزلي فترات تمتد شهوراً أحياناً، على الرغم من عدم اقتناعي. ثم أعود وأستأنف الدروس، فقد كان الأمر أشبه بعملية كرّ وفرّ.

في النهاية، كان على أحد الطرفين أن يضحّي، وللأسف كنت أنا هذا الطرف دائماً، بحيث كنت أضحّي بصمت، لا أتكلّم ولا أمانع ولا أنبس ببنت شفة، إلى أن آن أوان تعبيري، الذي لم يكن عادياً، بل كان بمثابة انفجار.

هل تقصدين أنّ تعبيرك كان بتفجير موهبة الرسم؟

– لا، ففي ذلك الحين، كنت أتعلّم وحسب، ولم أكن قد احترفت بعد، ولكن كان التعبير أنْ وضعت حدوداً لأمور كثيرة، ولم أعد أرضى بالواقع المفروض عليّ. ورفضت الإملاءات وما عدت أخاف على مشاعر الآخرين، بالمعنى السلبي للكلمة، فأنا لي الحق في العيش كما أريد، ولديّ مشاعري التي لم يخف عليها أحد، وعندي رأيي، وأود الحفاظ على شخصيتي لا أن أذوّبها في شخصيّات الآخرين وأعيش كما يريدون هم لا كما أريد أنا. فقرّرت أنّني يجب أن أتكلّم وأعبّر، وأن أعوّض الجزء الذي فقدته خلال السنوات التي خلت. وهنا، لم يكن الصراع عائلياً وحسب، بل كان في عالم الرسم أيضاً مع فنّانين كبار، حيث لم يكن سهلاً أن تجد موطئاً لقدمك في مساحتهم الخاصة، وأنت الوافد الجديد والمبتدئ حديثاً في فنّ يعتبرونه حكراً عليهم وهم أربابه، وقد بتّ تشكّل خطراً عليهم في نظر كلّ منهم. وكانت ثورتي على واقعي، على بيئتي، على الأفكار البالية، وانطلقت كالسهم، من دون أن ألتفت إلى خلفي، فقد وضعت ما أصبو إليه نصب عينيّ وأخذت أتطلّع إليه.

هل الرسم بالنسبة إلى ريما وسيلة أم هدف؟

– الرسم بالنسبة إليّ هو حياة، والمرسم مصدرها. لذا، أستطيع أن أعيش فيه، وإن لم أرسم. فمجرّد وجودي بين أدواتي يشعرني بمِتعة لا حدود لها… فهو وسيلة للتعبير عمّا في داخلي وهدف فيه تحقيق ذاتي. وهذا المكان بما يمثّل جزءاً منّي، بل كلّي… وعكسه بيتي، فهو ليس فيه لوحة واحدة من لوحاتي ولا رسمة ولا حتى صورة خاصة.

أليس غريباً هذا الأمر، فالناس يشترون رسوماتك لتزيّن جدران منازلهم؟

– أنا أعشق المرسم بلوحاته، وكما ذكرت هو جزء منّي ولا أريد أن أنقص منه لوحة واحدة، ولا أحبّ أن يكون له شبيه في مكان آخر وإن كان منزلي.

 * كيف تصفين علاقتك باللوحات التي ترسمين؟

– علاقتي بها علاقة حب وشغف، فهي كعلاقة عشق كاملة بين حبيبين يتخاصمان، يفترقان، يتصالحان… وعندما أنهي رسم لوحة وتخرج للنور، يكون الأمر أشبه بولادة طفل، من قبلُ لم يكُ شيئاً ثمّ أصبح حياً له كيان.

متى قرّرت ريما أن يكون لها مرسم خاصّ؟

– بعد صراع مرير مع نفسي ومع من حولي، فأنا لم أعتد الحصول على ما أريد في سهولة. وقد استمرّ الصراع طويلاً. وفي سنّ الأربعين، شعرت بأنّني وُلِدت من جديد، فقد بت أعرف مَن هي ريما وما تريد. في البداية، كان الرسم هو ما أصبو إليه، أمّا فكرة المرسم الخاص، فبدأت تراودني فعلياً منذ 12 سنة. بعد ذلك، بدأت أرسم وأعلّم، وكان عندي طالبة واحدة. والآن، أنا سيّدة نفسي وأقرّر ما أريد. وهذا جعل مَن حولي يرون أنّني تغيّرت، ولكن في الحقيقة أنا لم أتغيّر بل وجدت الثوب الذي يناسبني بعدما كنت ألبس أثواباً تُختَار لي من دون أن يكون لي رأي فيها. وعلى الرغم من ذلك كلّه، فأنا ما زلت أملك زمام الأمور، فإذا تراجعت فبهدوء، وإن رجعت فمن دون ضجيج. وعملي لا يأخذني من عائلتي ومن بيتي وممّن حولي، فقد نظّمت وقتي وجعلت لكلّ شيء أواناً.

معلوم أنّك تذهبين كلّ أسبوع يومين إلى بلدة شبعا بحكم التوأمة بين ريشة ولون وبيت ثقافة وفنون لصاحبه أسامة الخطيب، ألا تعتبرين أنّك تقصّرين في حق عائلتك وأنّها أحقّ بهذا الوقت؟

– ذكرت أنّني ما زلت أملك زمام الأمور في بيتي وفي بيئتي ومع الجميع، وعائلتي تقبّلت الأمر، وتقبّلت أّن لي الحقّ في أن يكون لي وقتي الخاصّ، فقد كرّست وقتي كلّه لعائلتي وللجميع في ما مضى وما زلت. وباتوا يتفهّمون تطلّعاتي وما أريد، وما أطمح إليه.

دُعيتِ الشهر الماضي إلى مصر للمشاركة في نشاط للرسم، حدّثينا عن هذه التجربة.

– فعلاً، تلقّيت دعوة من الفنّان محمد حميدة للمشاركة في “منتدى المرأة العالمي للفنون”، وكنت سابقاً تلقّيت دعوات كثيرة منه، ولكن الظروف لم تكن تسمح لي بالسفر. وحميدة صاحب غاليري كبير، وكانت الدعوة لأربعين رسّامة “للرسم الحي مع الجمهور”، إضافة إلى فعاليات مختلفة ترافق النشاط من عزف إلى إلقاء شعر… وما حفّزني لقبول الدعوة هو فترة الركود التي مررنا فيها في لبنان وما زلنا… فوجدت الفرصة سانحة لاستعادة نشاطي واسمي، أضف إلى ذلك أنّ حميدة شخص رائع في فنّه وفي إنسانيّته ويقدّر الفنّان. أمّا نشاطنا فكان يبدأ من الساعة الرابعة عصراً حتى الثامنة أو التاسعة مساءً. وحقيقة هذه الدعوة إلى مصر لم تكن الوحيدة، فقد دُعيتُ سابقاً للمشاركة في فعاليات للرسم في السعودية وفي اليونان… 

ماذا أضافت هذه التجربة إلى ريما؟

– استعدت نشاطي واسمي كرسامة كما قلت سابقاً. وقد تعرّفت بالرسّامات المشاركات، وكنّ من أوكرانيا، تركيا، السعودية واليونان… وفضلاً عن التعرف بجزء من حضارات بلدان الفنّانات المشاركات وثقافاتها، فقد تعرّفت بأسلوب كل واحدة منهنّ في الرسم، كيف تبدأ لوحتها وكيف تُنهيها، أضف إلى ذلك أنّهنّ دعونني لزيارة بلدانهنّ، وقد يدعونني عند تنظيم أيّ فعالية للرسم في بلد أيّ منهنّ.

* هل وصلت ريما إلى الحلم الذي كانت ترنو إليه؟

 – لا أحبّ كلمة حلم، فالحلم ليس واقعياً، وقد يتحقّق وقد لا. أفضّل كلمة هدف. ولكل واحد منّا في الحياة هدف يضعه نصب عينيه ويسعى من أجله. وأنا ما زال أمامي الكثير، لأنّني مزاجية، ومزاجيتي تقف في طريقي، فأنا عاطفيّة جداً وتربطني بالرسم واللوحات علاقة حميمة كعلاقة حبيبين يتخاصمان ويفترقان… ثم يتصالحان.

وهل مزاجيتك هي التي منعتك من تنظيم معرض خاص بك؟

– نعم، ولكنها ليست السبب الوحيد، فأنا كسول جداً، وكسلي أيضاً مرتبط بمزاجيتي، فقد أحتاج إلى وقت طويل لإنجاز لوحة، في حين أنّ غيري من الرسامين قد يرسم عشر لوحات أو أكثر في اليوم الواحد. أضف إلى ذلك أنّني مسؤولة عن بيت وأسرة رغم أنّني أوجدت حيّزاً لنفسي وسط هذا كلّه. وفي المرسم، لوحات كثيرة تحتاج إلى إنهاء، وقد فكّرت أكثر من مرّة في تنظيم معرض لوحات غير مكتملة، لأترك مساحة لمن يراها كي يتخيّل تتمّتها.

في النهاية، زرت بلاداً كثيرة، وشاركت في نشاطات فيها، ألا تطمحين إلى تنظيم معرض لرسوماتك في لبنان قريباً؟

– تنظيم معرض في لبنان، في الوقت الحالي، صعب جداً نظراً إلى الظروف السيئة التي يمرّ فيها البلد. فضلاً عن أن نهج الغاليريات المتّبع لا يناسبني، فأنا أرسم ما يحلو لي، ولا أتقبّل فكرة أن يُملي عليّ أحدٌ شروطاً لأرسم أو متى أرسم أو ما أرسم. وأنا لا أستطيع تنظيم معرض وحدي، فالفنّان لا يمكنه أن يكون تاجراً، وهو في حاجة إلى رعاة وإعلانات للترويج للوحاته وتسويقها…