واع/ الوسيط الشرس/ اراء حرة/ بيشوى رمزى

قلق أوروبي بالغ تجاه التوجهات التي تتبناها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تجاه روسيا، والتي تمثل تحولا كبيرا في العقيدة الأمريكية، من حالة العداء المطلق إلى التقارب الذي بات يصل في بعض الأحيان إلى التحالف، وهو ما يبدو بجلاء في موقفه من الأزمة الأوكرانية، في إطار الدفاع عن موسكو، بالإضافة إلى حديثه المتواتر عن ضم جزيرة جرينلاند الخاضعة لسيادة الدنمارك، ناهيك عن موقفه المناوئ لحالة الاتحاد القاري، وهو ما يعود إلى ولايته الأولى، وهي المعطيات التي تمثل في مجملها تغييرا جذريا في مواقف واشنطن تجاه منطقة تمثل عمقا استراتيجيا لها، وهو ما يبدو ممتدا في إطار استعادة بريطانيا كحليف رئيسي في المنطقة على حساب القوى الأخرى داخل أوروبا الموحدة.

مواقف ترامب تجاه أوروبا، وإن بدت تحمل قدرا من العشوائية، ترواحت بين الحديث عن ضم أراض أوروبية تارة، والانحياز لروسيا تارة أخرى، وهو ما يتنافى مع ثوابت واشنطن الدبلوماسية، إلا أنها في جوهرها تمثل ضغطا منظما على القارة العجوز، في إطار مساع لإجبار دول القارة على خلق توافقات مع موسكو، وهو الأمر الذي يبدو مدعوما من قبل لندن، والتي تعكس مواقفها التاريخية رغبتها الملحة في الاحتفاظ بروسيا كقوى مؤثرة لضمان قيادتها القارية، وهو ما سبق وأن تناولته في مقال سابق، مما يساهم في تراجع النزعة الصراعية بين أوروبا الغربية وروسيا، وهو ما يراه ترامب السبيل لصناعة السلام، وإنهاء العداء التاريخي بين الغرب والشرق، بعدما باتت الأمور أقرب للخروج عن السيطرة في السنوات الماضية، مع اندلاع الأزمة الأوكرانية، والتي يحمل فيها “سيد البيت الأبيض” سلفه جو بايدن مسؤولية تأجيجها عبر مليارات الدولارات التي تكبدتها الخزانة الأمريكية في صورة مساعدات لكييف، ناهيك عن رؤيته لحلف الناتو ودوره في إثراء الصراع التاريخي.

ولعل حديث ترامب عن رغبته في إعادة روسيا إلى مجموعة السبع، بمثابة دليلا دامغا على رؤية قائمة في الأساس على خلق حالة من الحوار بين الغرب الأوروبي وروسيا، من خلال ضمان وجود الأخيرة مع القوى الكبرى في القارة العجوز وكذلك بعض القوى الأخرى، معا تحت مظلة حوارية، بينما يضع نفسه كوسيط، وليس كحليف للطرف الأول، وهو ما يضفي أبعادا جديدة لدور الوساطة في السياسة الدولية، في إطار يحمل قدرا من الشراسة، عبر ممارسة أقصى درجات الضغط السياسي على الطرف الأقرب تاريخيا من واشنطن، والذي لن يجد بديلا عنها لدرء الخطر حال نشوبه، بحكم التاريخ والثوابت التي طالما اعتمدتها الولايات المتحدة والتي اعتمدت نهجا يقوم في الأساس على تقديم الحماية للحلفاء الأوروبيين، ولا يمكنها التجرد من هذا الالتزام تمام حال مواجهة تهديد حقيقي ووجودي لهم.

الميزة الكبيرة التي يقدمها ترامب لموسكو، حال إعادتها إلى مجموعة السبع، يقابلها رفضا مطلقا لفكرة ضم أوكرانيا لحلف الناتو، بل ووضع مستقبل التحالف بأكمله في حالة من عدم اليقين، وهو ما يعني تجريدا للحلفاء من ميزة الاستقواء بالحماية الأمريكية المطلقة، وهو ما يساهم بصورة كبيرة في تعزيز دوره كوسيط، عبر تحقيق قدر من التوازن، والذي افتقدته الإدارات السابقة في إطار تعاملها مع روسيا، وهو ما يرجع في الأساس إلى بنية النظام الدولي برمته خلال أكثر من ثلاثة عقود كاملة، قامت على أساس الهيمنة الأحادية، في الوقت الذي تراجع فيه كل منافسيها، وهو الأمر الذي يتعارض مع طبيعة المرحلة الحالية جراء الصعود الروسي، والصيني، وقدرتهما على التأثير في عملية صناعة القرار الدولي.

ويعد مبدأ لملمة الخصوم على مائدة الحوار، ليس جديدا تماما، فهو مستلهم في الأساس من تجربة الشرق الاوسط، والتي شهدت حزمة من المصالحات الإقليمية، اعتمدت نهج يقوم في الأساس على حشد الخصوم على مائدة الحوار، وهو ما لعبت فيه الدولة المصرية دورا رئيسيا عبر شراكات ساهمت في خلق كيانات تجمع بينهم على أساس المصالح المشتركة، وبالتالي توارت الخلافات البينية، وهدأت النزعة الصراعية نحو التعاون بين مختلف أطراف المعادلة الإقليمية.

والواقع أن ترامب ليس معاديا لأوروبا، ولكنه يسعى لاستعادة موقع بلاده كقيادة عالمية، في ضوء واقع عالمي جديد، يتصاعد فيه دور منافسي واشنطن، حتى باتوا على مقربة منها، في الوقت الذي تورطت فيه الولايات المتحدة في الدفاع حلفائها لتعود تدريجيا إلى دورها إبان الحرب الباردة، عندما اعتلت قيادة الركن الغربي من العالم، في مواجهة الشرق، وعندما انتصرت على الاتحاد السوفيتي، حققت هيمنة جماعية للغرب بقيادة أمريكية، وهو النهج الذي لم يعد متوافقا مع معطيات المرحلة الدولية الراهنة، حيث أصبحت الحاجة ملحة للتحرك فرديا، عبر فرض القبضة الأمريكية على الجميع وأولهم الحلفاء، وهو ما يعني أن التقارب مع روسيا مرهون باستمرار حالة التوازن في المواقف الأمريكية، والذي بات ضامنا لاستمرار الدور المهيمن لأمريكا في تلك المنطقة من العالم، وهو ما يعكس تغييرا في النهج القائم على حالة “البحث عن صراع”، والتي طالما سعت إليها الإدارات الأمريكية المتعاقبة في العقود الأخيرة، وتحديدا منذ نهاية الحرب الباردة، للاحتفاظ بالقيادة، نحو حالة جديدة تقوم على “فرض السلام”.

وهنا يمكننا القول بأن نهج ترامب القائم على “فرض السلام”، عبر تقديم نفسه كـ”وسيط شرس”، يعكس تغييرا كبيرا يتماهى بصورة ما مع معطيات الحقبة الدولية الجديدة، بعدما فقدت واشنطن الكثير من هيبتها في الانغماس في صراعات لا تعود بالنفع عليها وإنما ساهمت في تراجعها لصالح منافسيها، خاصة وأن رؤية الادارة الحالية مازالت لا ترى روسيا تهديدا لها بقدر ما تنظر إلى قوى أخرى على غرار الصين، بل أنها ربما تجد أن ثمة مشتركات تجمع بينهما، يمكن البناء عليها في المستقبل لتحقيق المصالح الأمريكية، وهو ما يمثل الأولوية القصوى في رؤية الرئيس الأمريكي.